menu

اخر المواضيع

كــرات الدم الحمراء

كــرات الدم الحمراء


يحتوي جسم الإنسان البالغ على حوالي خمسة لترات من الدم أي ما يقرب من ثمانية في المائة من إجمالي وزن الجسم، ويضخ الدم إلى سائر خلايا الجسم مضخة فريدة من نوعها تعمل ليل نهار دون توقف هي القلب، أما الأنابيب (الأوعية) التي يمر فيها الدم فتسمى الأوعية الدموية، ومن هذه الأوعية ما يحمل الدم من القلب إلى خلايا الجسم ويسمى شريانًا ومنها ما يعود بالدم إلى القلب ويسمى وريدًا، ومن مجموع القلب والدم والأوعية الدموية، يتكون (الجهاز الدوري) أحد أجهزة الجسم الرئيسة.

والجهاز الدوري هو أسطول المواصلات في جسم الإنسان، والدم أنشط أعضائه، أو بالدقة فإنه العضو المتحرك الوحيد في هذا الأسطول، لهذا يعتبر الدم ـ تجاوزًا ـ وسيلة المواصلات داخل الجسم البشري ويقوم الدم بنقل غاز الأكسجين من الرئتين إلى سائر خلايا الجسم كما ينقل الغذاء من الجهاز الهضمي (المعدة والأمعاء وملحقاتهما) إلى كل خلية في الجسم، ثم ينقل الفضلات (نواتج العمليات الحيوية) إلى الكليتين لإفرازهما إلى خارج الجسم، وهو الذي يحمل غاز ثاني أكسيد الكربون من الخلايا إلى الرئتين، لطرده خارج الجسم أثناء الزفير، كذلك فإنه ينقل الهرمونات من الغدد الصماء (سميت بذلك لأنه لا قناة لها، إذ تصب إفرازاتها في الدم مباشرة) إلى الأنسجة التي تعمل عليها هذه الهرمونات، وفوق كل ما تقدم فإنه ينقل الحرارة من الأجزاء الدافئة من الجسم إلى الأجزاء الباردة.

ألا يستحق الدم بعد كل هذا أن يسمى سائل الحياة؟

هذا ويبدو الدم سائلاً متجانسًا ولكنه في الحقيقة غير ذلك، إذ لو ترك واقفًا في أنبوب فإنه ينفصل إلى شقين متميزين، أحدهما يرسب نحو القاع، والآخر يطفو على السطح، أما الراسب فيتكون من خلايا الدم المختلفة وهي تشكل حوالي (45%) من حجم الدم، وأما الشق الذي يطفو فهو البلازما ـ وهي سائل أصفر اللون يكون حوالي خمسة وخمسين في المائة من حجم الدم.

تكون الخلايا الحمراء:

يبدأ تكـون جميـــع خلايــا الدم، ومن بينهـــا الخـــلايا الحمـــراء قبل أن يرى الإنســان نــور الحيــاة، بل إن تكـــون الخـــلايا يبدأ مع تكون الجنين البشري في رحــم أمـــه، فأثناء الشــهر الأول من حياة الجنين في الرحــم تتكون الخلايا الحمراء من خلية تعرف باسم (مولدة خلايا الدم) Haematocytoblast وتوجد في محفظة المح التي يتغذى منها الجنين.
وفي الشهر الثاني من حياة الجنين داخل الرحم يقوم الكبد بدور رئيس في تكوين خلايا الدم، وعلى رأسها الخلايا الحمراء، ومع حلول الشهر الخامس من الحياة في الرحم، يتسلم الطحال المسؤولية فيقوم بتكوين خلايا الدم، وفي الوقت نفسه (أي في الشهر الخامس) يبدأ نخاع العظام في الاستعداد للقيام بنفس المهمة.
وعند خروج المولود إلى نور الحياة يكون الطحال قد أعفي من مسؤولية تكوين خلايا الدم، ويحملها عنه نخاع العظام، ويعاونه في ذلك الكبد على نطاق محدود.

وفي البداية تكون الخلايا المولدة لخلايا الدم في مراكز نخاع العظام فقط، لكنها سرعان ما تنتشر لتشغل كل أماكن وجود النخاع في طول عظام الجسم، ويستمر نخاع العظام في النهوض بمسؤوليته تقريبًا حتى سن السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة.

وببلوغ هذا العمر يكون معظم نخاع العظام قد اكتظ بالدهون وتناقص فيه عدد الخلايا النشطة للإنتاج، لذلك تقع المسؤولية على عاتق (نخاع العظام الأحمر) وحده، وهذا النخاع الأحمر موجود في العظام المسطحة مثل الجمجمة وعظمة القص (في وسط الصدر) والضلوع، وعظام العمود الفقري، وعظام الحوض، ويستمر النخاع الأحمر في إنتاج خلايا الدم إلى آخر عمر الإنسان، وإن كان النشاط الإنتاجي يتناقص مع التقدم في العمر.

لقد اُكتشف مؤخرًا أن تكون الخلايا الحمراء في نخاع العظام يخضع لتأثير مادة حاثّة (منبهة) أطلق عليها (العامل الحاثّ لتكوين الخلايا الحمراء) ويعرف اختصارًا بالحروف (ESF)، ويتكون هذا العامل الحاث في الدم بتأثير أنزيم تفرزه الكليتان بصفة أساسية، وتزيد نسبة العامل الحاث في الجسم كلما تناقص عدد الخلايا الحمراء والعكس صحيح.
عدد الخلايا الحمراء:

عادة يقدر عدد أي نوع من خلايا الدم بالموجود منها في ملليمتر مكعب واحد (مم3)، وفي هذا الحجم الضئيل الذي لا يزيد عن قطرة دم في حجم رأس دبوس الإبرة، توجد خمسة ملايين خلية حمراء (في المتوسط).


ويبدو أن الإنسان في عصر الملايين لا يدرك بسرعة كم هو كبير رقم خمسة ملايين، وتقريبًا للأذهان فإن الإنسان إذا أخذ يعد الأرقام بمعدل رقم واحد كل ثانية واستمر يفعل ذلك ست عشرة ساعة متواصلة كل يوم فإنه يحتاج إلى ثلاثة شهور ليبلغ الرقم خمسة ملايين.
ولما كان الملليمتر المكعب يساوي (ميكروليتر واحد) (الميكروليتر جزء من مليون جزء ينقسم إليها اللتر الواحد) ـ فإن عدد الخلايا الحمراء في ليتر واحد من الدم يساوي خمسة ملايين مليون!
ويجب أن ننوه إلى أن لتر الدم الواحد لا يحتوي فحسب على هذا الحشد الهائل من الخلايا الحمراء بل يحتوي كذلك على خلايا الدم الأخرى، عدا عشرات المركبات الكيميائية الأخرى! فتبارك الله أحسن الخالقين.

خصائص الخلايا الحمراء:

الخلية الحمراء قرص مقعر من سطحين متقابلين، وفي الحقيقة فإنها لا تحتوي على نواة(1) في وسطها مثل باقي أنواع خلايا الجسم، وهذا هو السبب في أن بعض المراجع العلمية تشير إليها باسم (كريات الدم الحمراء) على اعتبار أن كلمة (خلية) تستوجب وجود (نواة).

وعلى الرغم من أن كلمة كرية، أدق من جهة التعبير العلمي من كلمة خلية، إلا أننا سنستمر في استخدام كلمة خلية، منعًا من التباس المعنى.
ونظرًا لتناهي الخلية الحمراء في الصغر، فإن أبعادها (القطر والسمك) تقدر بوحدة قياس اسمها الميكرون .micron والميكرون جزء من ألف جزء ينقسم إليها الملليمتر الواحد؛ أو هو جزء من مليون جزء ينقسم إليها المتر الواحد ووفقًا لوحدة القياس المذكورة فإن قطر الخلية الحمراء يساوي (7,2 ميكرون)، أما سمكها فيساوي (2,2 ميكرون).
ولكي يسهل تصور حجم الخلية الحمراء ومدى صغرها، فإننا نعاود القول بأن قطرة دم لا يزيد حجمها عن حجم رأس دبوس الإبرة تحتوي على خمسة ملايين خليه حمراء!
وهذه الخلية الحمراء المتناهية في الصغر، تحتوي على الصبغ المعروف باسم (هيموجلوبين) haemoglobin الذي يعطيها اللون الأحمر، كما تحتوي على الأنزيم المعروف (نازع الهيدروجين من حامض الكربونيك).

carbonic anhydrase enzyme (كاربونيك انهيدريز) والعجيب بشأن الخلايا الحمراء أمران:

ا لأول: أن تقعر سطح الخلايا الحمراء يزيد من مساحة السطح الكلية أضعافًا كثيرة مما يخدم وظيفة الخلايا الرئيسة وهي نقل الغازات (الأكسجين، وثاني أكسيد الكربون) بين الرئتين وسائر خلايا الجسم، ويقدر أن مساحة سطح الخلايا الحمراء في جسم إنسان واحد، تساوي 3200 متر مربع! وهذه المساحة تساوي ألفًا وخمسمائة ضعف مساحة سطح الجسم.
الثاني: أن الخلية الحمراء الواحدة تحوي مائتين وثمانين مليون جزيء(2) من صبغ هيموجلوبين على وجه التقريب، أما كيف يمكن أن تسع خلية متناهية الصغر ذلك العدد الهائل من جزيئات مادة ما فهو إعجاز في الصنعة ليس له نظير.

وظيفة الخلايا الحمراء:

كلنا يتنفس وكلنا يدري لأن التنفس ضرورة من ضروريات الحياة، فإذا انقطع التنفس لدقائق قليلة، انقطع معه حبل الحياة.

لكن لماذا كان التنفس ضرورة للحياة؟

الإجابة ببساطة أن خلايا الجسم تتنفس، إنها تحتاج إلى غاز الأكسجين (الموجود في الهواء) لكي تقوم بوظائفها الحيوية، وينتج عن هذه الوظائف الحيوية غاز ثاني أكسيد الكربون، وهذا الغاز عند تركيز معين يكون سامٌّا للخلايا ويعوقها عن القيام بوظائفها لذا يلزم التخلص منه أولاً بأول.

وعن طريق التنفس، وهو عملية لا إرادية يتم تزويد خلايا الجسم بحاجتها، فمع كل شهيق (شهقة هواء إلى داخل الرئتين ـ وهي عضو التنفس) يصل الأكسجين إلى خلايا الجسم، ومع كل زفير (زفرة هواء إلى خارج الجسم) يتم طرد ثاني أكسيد الكربون إلى خارج الجسم وغاز الأكسجين يذوب بمقادير قليلة في بلازما الدم ليكون محلولاً بسيطًا، ولكن هذا المقدار القليل يقصر كثيرًا دون الوفاء بحاجة الجسم من غاز الأكسجين، وإذًا فلا بد من وسيلة أخرى لنقل غاز الأكسجين بمقادير وفيرة إلى خلايا الجسم.

هنا يأتي دور الخلايا الحمراء، وقد أسلفنا القول بأن كل خلية حمراء تحوي مائتين وثمانين مليون جزيء MOLECULE من صبغ هيموجلوبين الذي يعرف كذلك باسم(اليحمور)أو(خضاب الدم) HAEMOGLOBIN

وإن تعجب للبراعة في التصميم والبناء، فاعجب لتركيب هذا الصبغ العجيب داخل خلية متناهية الصغر! فالجزيء الواحد من الهيموجلوبين يتكون من شقين: شق اسمه (هيم) Haem وهو صبغ أحمر يعطى الخلايا الحمراء لونها المميز، وشق اسمه (جلوبين) Globin وهو بروتين.

وشق (هيم) يتكون من أربع وحدات، تحوي كل وحدة ذرة من الحديد (في صورته الثنائية) أما شق (جلوبين) فيتكون من أربع سلاسل من البروتين، اثنتان من هذه السلاسل تسمى (ألفا) تحوي كل منها مائة وواحدًا وأربعين حامضًا أمينيٌّا amino acid (الأحماض الأمينية هي الوحدات التي يتكسر إليها بروتين الطعام، وهي الوحدات التي يبنى منها بروتين الجسم) وسميت (أمينية) لاحتوائها على مجموعة (أمين) amine الكيميائية NH2

أما السلسلتان الأخريان من بروتين (جلوبين) فتسمى (بيتا) وتحوي كل منهما مائة وستة وأربعين حامضًا أمينيٌّا، وتلتف كل سلستين على شكل حلقي لولبي (helix) وتوجد وحدة واحدة من وحدات الشق (هيم) في مركز كل سلسلة من سلاسل بروتين (جلوبين) في تناسق ليس يناظره تناسق.
وعند وصول الدم ـ وفيه الخلايا الحمراء ـ إلى الرئتين تتحد كل ذرة حديد في جزيء هيموجلوبين مع جزيء أكسجين، ولما كان جزيء هيموجلوبين محتويًا على أربع ذرات حديد فإنه يحمل أربع جزيئات أكسجين، ولما كانت الخلية الحمراء الواحدة محتوية على قرابة ثلاثمائة مليون جزيء هيموجلوبين فإنها تحمل حوالي ألفًا ومائتي مليون جزيء أكسجين.

ترى كم يكون عدد جزيئات الأكسجين التي تحملها كرات الدم الحمراء الموجودة في مللميتر مكعب واحد؟ وكم يكون عدد جزيئات الأكسجين التي يحملها الدم كله؟
يحدث هذا كله دون شعور من الإنسان ودون إرادة منه، ويتكرر هذا الصنيع الطيب من الخلايا الحمراء عشرين مرة في الدقيقة الواحدة (هي عدد مرات التنفس) وفي كل ساعة وكل يوم من أيام عمر الإنسان.
فهل هناك إحكام في الصنعة، يناظر هذا الإحكام؟
على أن قصة الإبداع في صنعة خلايا الدم الحمراء لم تتم فصولها بعد، فالهيموجلوبين الذي (تشبع) بالأكسجين في الرئتين فيما يسمى عملية (أكسجة) oxygenation (3) سرعان ما يعطي الغاز إلى خلايا الجسم بمجرد وصوله إلى الشعيرات الدموية (4) وهي النهايات الدقيقة للأوعية الدموية. ويبقى أن تحمل الخلايا الحمراء غاز ثاني أكسيد الكربون من الخلايا إلى الرئتين لطرده خارج الجسم وهنا يتطوع الهيموجلوبين مرة ثانية للقيام بدور نشط فيحمل حوالي عشرين في المائة من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الخلايا بعد ارتباط الغاز بشق البروتين (جلوبين) مكونًا المركب المسمى (كاربامينوهيموجلوبين) carbaminohaemoglobin

وهناك عشرة في المائة من ثاني أكسيد الكربون تذوب في بلازما الدم لتكوين محلولاً بسيطًا. وعلى الرغم من هذا النشاط يبقى حوالي سبعين في المائة من ثاني أكسيد الكربون في الخلايا.
وحيث إن الدم القادم من القلب إلى الشعيرات الدموية يبقى فيها مدة ثانية واحدة قبل أن يغادرها من جديد عائدًا إلى القلب فيجب أن يتم نقل المتبقي من ثاني أكسيد الكربون في الخلايا على جناح السرعة.

وهنا يتجلى جانب آخر من جوانب الإبداع والإعجاز في الصنعة؛ فكل خلية دم حمراء تحوي الأنزيم المسمى (كاربونيك انهيدريز) وهذا الأنزيم يساعد التفاعل المؤدى إلى تكوين (حامض الكربونيك) من اتحاد الماء مع ثاني أكسيد الكربون، هكذا:
ثاني أكسيد الكربون + (ماء كربونيك/انهيدريز) = حامض الكربونيك

ومصدر الماء في هذا التفاعل هو الدم، فالماء يكوّن حوالي تسعين في المائة من البلازما (بالوزن) وحامض الكربونيك الناتج من هذا التفاعل حامض ضعيف سرعان ما يتحلل إلى أيونات بيكربونات وهيدروجين (الأيون ion هو ذرة أو مجموعة من الذرات تحمل شحنة كهربية، وتكون عنصرًا في محلول).
وتدخل الأيونات الناتجة ـ وهي بيكربونات وهيدروجين ـ في عمليات كيميائية حيوية في الجسم، تعرف باسم (توازن الحامض - القوي) base balance-acid
بقي أن نقول: إن ثاني أكسيد الكربون يمكن أن يتحد مع الماء في ظروف عادية لتكون حامض الكربونيك، ولكن مثل هذا التفاعل يتم في بطء شديد، أما أنزيم (كاربونيك انهيدريز) فيزيد من سرعة التفاعل خمسة آلاف ضِعف، وبذلك تتمكن خلايا الدم الحمراء من تخليص خلايا الجسم من ثاني أكسيد الكربون في ذلك الزمن الوجيز ـ ثانية واحدة.

دورة الحياة
تعيش خلية الدم الحمراء ما بين ثمانين إلى مائة وعشرين يومًا تؤدى خلالها عملها في أمانة مطلقة دون كلل أو فتور، وعندما تهرم الخلية الحمراء ويحين أجلها تقوم بتكسيرها خلية أخرى اسمها (الخلية الملتهبة) macrophage والخلية الملتهبة خلية كبيرة تلتهم الخلية الحمراء الهرمة وغيرها من الخلايا، وهي تتبع (الجهاز الهادم ـ الباني)

riticulo-endothelial system الذي يعتبر (الطحال) أهم أعضائه.

ما بين اثنين إلى عشرة ملايين خلية دم حمراء يتم تكسيرها بواسطة خلايا الدم الهادم ـ الباني كل ثانية. وعلى الرغم من ذلك يبقى عدد الخلايا الحمراء في الدم ثابتًا في أي وقت من الأوقات ذلك أن أعضاء الإنتاج تعمل في تناسق بديع مع سائر الأعضاء لحفظ التوازن في الجسم على الدوام، وحتى عند تكسيرها خلايا الدم الحمراء.

فليس هناك بعثرة للموارد بل يستفيد الجسم من عناصر كل خلية، لتكوين خلايا ومركبات جديدة، في أعجب نظام للاقتصاد، فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

1001e-books,blogspot.com

Hatem Salah


No comments:

See More........... Related Posts with Thumbnails
ضع تعليقاتك